عالمية

المركزى الاوروبى: سنستخدم مرحلة كبح التضخم لمواجهة التقشف المالى

تعتمد منطقة اليورو بشكل كبير على تيسير السياسة النقدية، ولكن هناك حاجة إلى سياسات عامة متعقلة وتتسم بالصبر واتساع القاعدة من أجل معالجة المشكلات الهيكلية المتأصلة

وضع منطقة اليورو يعد مألوفاً: بلدان تستغل جيرانها الذين لديهم فوائض تجارية كبيرة بشكل غير لائق ليصبحوا هم متخذي القرار.

 

تحتاج فرنسا وإيطاليا واسبانيا إلى مساحة لمعالجة ما يسميه الرئيس ماكرون “أوجه الظلم” والذي تسببت فيه سنوات من معدلات البطالة المرتفعة والتقلبات الاقتصادية ومشكلات الإقصاء الاجتماعي.

 

السياسة النقدية وحدها لا تستطيع التعامل مع كل تلك الأمور، وسيستخدم البنك المركزي الأوروبي “مرحلة كبح التضخم” للمساعدة على مواجهة التقشف المالي، ولكن هناك حاجة إلى سياسات عامة صبورة ومتعقلة وذات قاعدة عريضة لمعالجة المشكلات الهيكلية المتأصلة.

 

في الوقت الحالي، حققت نسبة 40% من دول منطقة اليورو نمو في فوائض الميزانية، أو بالتقريب توازن حسابات القطاع العام مع الدين العام عند مستوى 60% أو أقل من إجمالي الناتج المحلي.

 

النصف الآخر من الدول لا يزال يعاني من عجز في الميزانية ومستويات للدين العام تتراوح بين 100%  و 182% (اليونان) من إجمالي اقتصاداتها. وعلى الرغم من ارتفاع معدلات البطالة لدى هذه الدول، إلا أنها تتعرض لضغوط مستمرة من المفوضية الأوروبية (الهيئة التنفيذية للاتحاد الأوروبي) من أجل أن تقوم بخفض الإنفاق العام وزيادة الضرائب لموازنة حساباتها وتحقيق فائض أولي كبير في الميزانية (أرصدة الميزانية قبل خصم تكاليف الفائدة على المديونيات العامة)، وذلك لضمان وضع مستويات الدين الحكومي على مسار هبوطي بصورة مستمرة.

 

وبالنسبة للبلدان التي تعاني من عجز الموازنة، فإن السياسة النقدية التي تشجع على الإقتراض تعد هي الداعم الأساسي للإقتصاد. أما بالنسبة لمنطقة اليورو ككل، فإن هذه الموائمة النقدية من قبل البنك المركزي الأوروبي تعتبر محاولة مناسبة للتعويض جزئيًا عن السياسة النقدية المشددة باستمرار والتي تتسبب في معارضة داخل المنطقة وارتفاع التكاليف من حيث الوظائف والدخل.

 

الإتجاه نحو التقشف المالي خلال الدورة الاقتصادية

فرنسا – التي تمثل نحو خمس اقتصاد منطقة اليورو – هي مثال حي للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي واجهتها في سعيها المتواصل نحو تحقيق وضع نموذجي للمالية العامة.

 

خلال سعيها للتكيف من وضع الرفاهية إلى وضع ما بعد الأزمة المالية العالمية، قلصت فرنسا عجز ميزانيتها من ذروته البالغة 7.2% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2009 إلى 2.8% في عام 2017 ، وهو ما يقل كثيراً عن القاعدة النقدية بالاتحاد الأوروبي والبالغة 3 % من الناتج المحلي الإجمالي. وبعدها أراد الرئيس إيمانويل ماكرون المضي قدمًا وبشكل أسرع في تخفيض العجز والإصلاحات الجذرية إلى حد ما للاقتصاد والمجتمع الفرنسي بشكل عام – بهدف إقناع الألمان بأفكاره الكبيرة حول إعادة تأسيس الاتحاد الأوروبي.

 

وكما هو متوقع، نتج عن خفض الإنفاق العام والزيادات الضريبية أحداث شغب عنيفة في نوفمبر الماضي، أشعل فتيلها ارتفاع أسعار الوقود، ولكن سرعان ما إتسعت دائرتها لتشمل المطالبة برفع الحد الأدنى للأجور، وإقرار ضرائب على الثروات، وتحسين مستويات المعيشة، واستقالة الرئيس ورئيس الوزراء، إلخ. هذا الحراك الاجتماعي، الذي أطلق عليه “السترات الصفراء”، هدأ تدريجياً بعد الغاء ضرائب الوقود ورفع الحد الأدنى للأجور ومنح تخفيضات ضريبية. لكن السخط العام لا يزال يتصاعد، كما اعترف ماكرون بذلك في وقت سابق من هذا الشهر. وحذرت حركة “السترات الصفراء” الجميع بأنهم سيعودون إلى الشوارع في سبتمبر القادم.

 

كان الاندفاع نحو احتواء وتهدئة الاضطرابات مسألة مكلفة، حيث: ارتفع عجز الموازنة الفرنسية في الربع الأول من العام الجاري إلى 3.6% من الناتج المحلي الإجمالي صعودا من من متوسط قدره 2.5% في عام 2018، مما يجعل استهداف تحقيق نسبة عجز تبلغ 2.1% لهذا العام أمرا بعيد المنال، وذكرت وسائل الإعلام الفرنسية الأسبوع الماضي أن الحكومة كانت تسعى بشكل يائس إلى جمع حوالي 3 مليارات يورو من العائدات الإضافية، جزء منها على ما يبدو هو ضريبة بنسبة 3% على الخدمات الرقمية والتي قد تتسبب في حرب تجارية وضريبية مع الولايات المتحدة.

 

تواجه إيطاليا وإسبانيا أيضًا صعوبات مالية في الوقت الذي يتباطأ فيه النمو وترتفع معدلات البطالة، الى جانب ما تشهده من ظروف اجتماعية وسياسية غير مستقرة.

 

البنك المركزي الأوروبي لا يستطيع تحقيق كل ذلك

تتعرض إيطاليا – والتي بالكاد تعافت من تسجيل نمو سلبي خلال ربعين متتاليين – إلى ضغوط لتخفض من عجز الموازنة، لتسجل على نحو متفائل للغاية نحو 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي لهذا العام. وتهدد مفوضية الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على روما لتخفيض عبء الدين العام الضخم البالغ 134% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يعد أمرا صعب للغاية بالنسبة لبلد يعاني من معدل بطالة يصل الى 10%، مع غياب فرص العمل والمستقبل الجيد عن 31% من شبابه.

 

إسبانيا، والتي يبلغ معدل البطالة فيها 13.6% ويبحث نصف مليون (31.7%) من شبابها عن عمل، ليس لديها حكومة مستقرة على الرغم من مرور ثلاثة أشهر على الانتخابات البرلمانية الأخيرة. لكن مدريد أيضاً تتعرض لضغوط من المفوضية ببروكسل من أجل أن تقوم بتخفيض عجز الموازنة إلى 2% هذا العام (بدلا من 2.5% في عام 2018)، وأن تحرز بعض التقدم في خفض مستوى الدين العام لديها والذي إستقر عند 100% من الناتج المحلي الإجمالي.

 

ومن المؤسف أن المفاوضات لتشكيل الحكومة باءت بالفشل في الأسبوع الماضي بسبب قضايا سوق العمل لأن الحزب اليساري (Podemos)  طلب أن يترأس وزارة العمل لخلق المزيد من فرص العمل وزيادة دخل العمال.

 

كما هي الصورة الآن، من المحتمل أن تدخل إسبانيا في جولة جديدة من الانتخابات في أوائل نوفمبر، مما يعني أنه لن يكون لديها حكومة عاملة هذا العام للنظر في قضايا الديون العامة ونسب العجز.

 

وإذا جمعت اقتصادات فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، فسيكون الناتج ما يقرب من نصف اقتصاد منطقة اليورو، حيث تصبح الضغوط الناتجة عن معدلات النمو والبطالة في المرتبة الثانية بعد ضغوط خفض الإنفاق العام ورفع الضرائب.

 

في هذه الحالة، هل يعتبر أمراً عجيباً أن يقوم البنك المركزي الأوروبي ببعض التعويض عن التشديد بالسياسة النقدية في منطقة اليورو – تحقيق فوائض كبيرة في الميزانية وضغط مستمر لتخفيض الديون العامة ونسب العجز – وذلك في ظل ظروف تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة؟

 

الغريب في الأمر أن البنك المركزي الأوروبي لا يتحدث كثيراً عن السياسة المالية، بل أنه بدلاً من أن كون مفوضاً بهذا الأمر يقر بالقول إن السياسة الائتمانية الميسرة هي استجابة للظروف الإقتصادية شبه الانكماشية، حيث سجلت أسعار المستهلكين في يونيو زيادة سنوية قدرها 1.3% وهو ما يعد أقل بكثير من المعدل المستهدف من قبل البنك المركزي الأوروبي على المدى المتوسط والبالغ 2%

 

من الممكن تفهُم حذر البنك المركزي الأوروبي، لكن من غير المفهوم أن تقوم مجموعة اليورو، وهي منتدى لوزراء مالية منطقة اليورو ويعملون كحكومة اقتصادية غير رسمية للاتحاد، بالتغاضى عن تقلبات السياسات المالية والموالية للدورة الاقتصادية.

 

تتحدى مفوضية الاتحاد الأوروبي وفرنسا الولايات المتحدة بشأن التجارة والضرائب، لكن ليس لديهم شجاعة لمواجهة السياسات الاقتصادية الضارة من قبل دول منطقة اليورو التي تسجل فوائض كبيرة ومتنامية في الميزانية وتعيش على حساب  شركاء لديهم صافي صادرات ضخمة.

 

خواطر استثمارية

وضع منطقة اليورو يعد مألوفاً: بلدان تستغل جيرانها الذين لديهم فوائض تجارية كبيرة بشكل غير لائق ليصبحوا هم متخذي القرار.

 

هذا يمهد الطريق لحدوث اضطرابات اجتماعية، وعدم الاستقرار السياسي، إلى جانب اشتباكات داخل المنطقة ، وحدوث حالة من العداء لسياسات مفوضية الاتحاد الأوروبي، والتي يمليها على ما يبدو سادة الأمور التجارية. تحتاج فرنسا وإيطاليا واسبانيا إلى مساحة لمعالجة ما يسميه الرئيس ماكرون “أوجه الظلم” والذي تسببت فيه سنوات من معدلات البطالة المرتفعة والتقلبات الاقتصادية ومشكلات الإقصاء الاجتماعي.

 

السياسة النقدية وحدها لا تستطيع التعامل مع كل تلك الأمور، وسيستخدم البنك المركزي الأوروبي “مرحلة كبح التضخم” للمساعدة على مواجهة التقشف المالي، ولكن هناك حاجة إلى سياسات عامة صبورة ومتعقلة وذات قاعدة عريضة لمعالجة المشكلات الهيكلية المتأصلة.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى